فصل: تفسير الآيات رقم (41- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما أتاه الأمر بذلك، بادر الامتثال فجمع من أمره الله به إلى السفينة بعد أن هيأها لهم ‏{‏وقال‏}‏ أي لمن أمر بحمله ‏{‏اركبوا‏}‏ ولما كانت الظرفية أغلب على السفينة قال‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ أي السفينة؛ ولما أمرهم بالركوب فركبوا، استأنف قوله، أو أمرهم بالركوب قائلين‏:‏ ‏{‏بسم الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏مجراها ومرساها‏}‏ أي إجرائها وإرساءها ومحلهما ووقتهما، وقرأ الحسن وقتادة وحميد العرج وإسماعيل بن مجالد عن عاصم بكسر الراء والسين كسراً خالصاً بعده ياءان خالصتان على أن الاسمين صفتان للجلالة؛ ثم علل نجاتهم بالإجراء والإرساء اعترافاً بأنه لا نجاة إلا بعفوه بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المحسن إلي بما دبر مني هذا الأمر وغيره، وزاد في التأكيد تطبيقاً لقلوب من معه معرفاً لهم بأن أحداً لن يقدر الله حق قدره وأن العبد لا يسعه إلا الغفران فقال‏:‏ ‏{‏لغفور‏}‏ أي بالغ الستر للزلات والهفوات ‏{‏رحيم*‏}‏ أي بالغ الإكرام لم يريد، فركبوها واستمروا سائرين فيها يقولون‏:‏ بسم الله ‏{‏وهي‏}‏ أي والحال أنها ‏{‏تجري بهم‏}‏‏.‏

ولما كان الماء مهيئاً للإغراق، فكان السير على ظهره من الخوارق، وأشار إلى ذلك بالظرف فقال‏:‏ ‏{‏في موج‏}‏ ونبه على علوه بقوله‏:‏ ‏{‏كالجبال‏}‏ أي في عظمه وتراكمه وارتفاعه، فالجملة حال من فركبوها، المقدر لأنه لظهوره في قوة الملفوظ، وكان هذه الحال مع أن استدامة الركوب ركوب إشارة إلى شرعة امتلاء الأرض من الماء وصيرورته فيها أمثال الجبال عقب ركوبهم السفينة من غير كبير تراخ، قالوا‏:‏ وكان أول ما ركب معه الذرة، وآخر ما ركب معه الحمار، وتعلق إبليس بذنبه فلم يستطع الدخول حتى قال له نوح عليه السلام‏:‏ ادخل ولو كان الشيطان معك- كذا قالوا، وقيل‏:‏ إنه منع الحية والعقرب وقال‏:‏ إنكما سبب الضر، فقالا‏:‏ احملنا ولك أن لا نضر أحداً ذكرك، فمن قال ‏{‏سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 79-80‏]‏ لم تضراه‏.‏ ولما كان ابتداء الحال في تفجر الأرض كلها عيوناً وانهمار السماء انهماراً- مرشداً إلى أن الحال سيصير إلى ما أخبر الله به من كون الموج كالجبال لا ينجي منه إلا السبب الذي أقامه سبحانه، تلا ذلك بأمر ابن نوح فقال عاطفاً على قوله ‏{‏وقال اركبوا‏}‏ ‏{‏ونادى نوح ابنه‏}‏ أي كنعان وهو لصلبه- نقله الرماني عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ‏{‏وكان‏}‏ أي الابن ‏{‏في معزل‏}‏ أي عن أبيه في مكانه وفي دينه لأنه كان كافراً، وبين أن ذلك المعزل كان على بعض البعد بقوله‏:‏ ‏{‏يا بني‏}‏ صغَّره تحنناً وتعطفاً ‏{‏اركب‏}‏ كائناً ‏{‏معنا‏}‏ أي في السفينة لتكون من الناجين ‏{‏ولا تكن‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏مع الكافرين*‏}‏ أي في دين ولا مكان إشارة إلى أن حرص الرسل عليهم السلام وشفقتهم- وإن كانت مع رؤية الآيات العظام والأمور الهائلة- ليست سبباً للين القلوب وخضوع النفوس ما لم يأذن الله، انظر إلى استعطاف نوح عليه السلام بقوله ‏{‏يا بني‏}‏ مذكراً له بالنبوة مع تصغير التحنن والتراؤف وفظاظة الابن مع عدم سماحه بأن يقول‏:‏ يا أبت، ولم يلن مع ما رأى من الآيات العظام ولا تناهى لشيء منها عن تقحم الجهل بدلاً من العلم وتعسف الشبهة بدلاً من الحجة‏.‏

ولما كان الحال حال دهش واختلال‏.‏ كان السامع جديراً بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال فيقول‏:‏ فما قال‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ قول من ليس له عقل تبعاً لمراد الله ‏{‏سآوي إلى جبل يعصمني‏}‏ أي بعلوه ‏{‏من الماء‏}‏ أي فلا أغرق ‏{‏قال‏}‏ أي نوح عليه السلام ‏{‏لا عاصم‏}‏ أي لا مانع من جبل ولا غير موجود ‏{‏اليوم‏}‏ أي لأحد ‏{‏من أمر الله‏}‏ أي الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء ‏{‏إلا من رحم‏}‏ أي إلا مكان من رحمة الله فإنه مانع من ذلك وهو السفينة، أو لكن من رحمه الله فإن الله يعصمه‏.‏

ولما ركب نوح ومن أمره الله به وأراده‏.‏ ولم تبق حاجة في تدرج ارتفاع الماء، فعلاً وطماً وغلب وعتاً فهال الأمر وزاد على الحد والقدر، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فلم يسمع ابنه ذلك منه بل عصى أباه كما عصى الله فأوى إلى الجبل الذي أراده فعلاً الماء عليه ولم يمكنه بعد ذلك اللحاق بأبيه ولا الوصول إليه‏:‏ ‏{‏وحال بينهما‏}‏ أي بين الابن والجبل أو بينه وبين أبيه ‏{‏الموج‏}‏ المذكور في قوله ‏{‏في موج كالجبال‏}‏ ‏{‏فكان‏}‏ أي الابن بأهون أمر ‏{‏من المغرقين*‏}‏ وهم كل من لم يركب مع نوح عليه السلام من جميع أهل الأرض؛ قال أبو حيان‏:‏ قل كانا يتراجعان الكلام فما استتمت لمراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه وحيل بينه وبين نوح عليه السلام فغرق- انتهى‏.‏ والركوب‏:‏ العلو على ظهر الشيء، ركب الدابة والسفينة والبر والبحر؛ والجري‏:‏ مر سريع؛ يقال‏:‏ هذه العلة تجري في أحكامها، أي تمر من غير مانع، والموج جمع موجة- لقطعة عظيمة من الماء الكثير ترتفع عن حملته، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت الريح؛ والجبل‏:‏ جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها كالوتد؛ والعصمة‏:‏ المنع من الآفة ‏{‏وقيل‏}‏ أي بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين، وهو من إطلاق المسبب- وهو القول- على السبب- وهو لإرادة- لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس‏.‏

ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر لا يعلمه إلا الله، دل على ذلك بأداة البعد فقال ‏{‏يا أرض ابلعي‏}‏ أي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع كل شيء على ظهرها من جبل وغيره، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال‏:‏ ‏{‏ماءك‏}‏ أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوى به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك ‏{‏ويا سماء أقلعي‏}‏ أي أمسكي عن الإمطار، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي لا يخرج عن مراده شيء ‏{‏وغيض الماء‏}‏ أي المعهود، حكم عليه بالدبوب في أعماق الأرض، من المتعدي فإنه يقال‏:‏ غاض الماء وغاضه الله، كما يقال‏:‏ نقض الشيء ونقضته أنا ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك من هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحاً عليه السلام، لم يقدر أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا أصغر منها‏.‏ فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما «يحبسه» لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم ‏{‏واستوت‏}‏ أي استقرت واعتدلت السفينة ‏{‏على الجودي‏}‏ إشارة باسمه إلى أن الانتقام العام قد مضى، وما بقي إلا الجود بالماء والخير والخصب والرحمة العامة، وهو الجبل بالموصل بعد خمسة أشهر؛ قال قتادة‏:‏ استقلت بهم لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء ‏{‏وقيل‏}‏ أي إعلاماً بهوان المهلكين والراحة منهم ‏{‏بعداً‏}‏ هو من بعد- بالكسر مراداً به البعد من حيث الهلاك، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والختصاص ‏{‏للقوم‏}‏ أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله ‏{‏الظالمين*‏}‏ أي العريقين في الظلم، وهذه الآية تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع- عدها أبو حيان وقال‏:‏ وروي أن أعرابياً سمعها فقال‏:‏ هذا كلام القادرين‏.‏ وذكر الرماني عدة من معانيها، منها إخراج الأمر على جهة التعظيم لفاعله من غير معاناة ولا لغوب، ومنا حسن تقابل المعاني، ومنها حسن ائتلاف الألفاظ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال، ومنها الإيجاز من غير إخلال، ومنها تقبل الفهم على أتم الكمال؛ والبلع‏:‏ إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف؛ والإقلاع‏:‏ إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى له أثر؛ والغيض‏:‏ غيبة الماء في ألأرض على جهة النشف وإبراز الكلام على البناء للمفعول أدل على الكبرياء والعظمة للفاعل للإشارة إلى أنه معلوم لأنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره، ونقل الأصبهاني عن صاحب المفتاح فيها كلاماً أغلى من الجوهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

ولما كان الاستثناء من أهله في قوله‏:‏ ‏{‏إلا من سبق عليه القول‏}‏ يجوز أن يراد به امرأته فقط، فتكون نجاة ابنه جائزة، وكان ما عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فرط الشفقة على الخلق لا سيما الأقارب يحملهم على السعي في صلاحهم ما كان لذلك وجه كما تقدم مثل ذلك في قوله تعالى ‏{‏إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ لأن أجنحة الخلق كسيرة وأيديهم قصيرة وأمرهم ضعيف وحالهم رث، فأدنى هوان يورثهم الخسران، وأما جناب الحق ففسيح وشأنه عظيم وأمره عليّ، فلا يلحقه نقص بوجه ولا يدانيه ضرر ولا يعتري أمره وهن، لما كان ذلك كذلك، سأل نوح عليه السلام نجاة ولده كما أخبر عنه تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏ونادى نوح ربه‏}‏ أي الذي عوده بالإحسان الجزيل، ودل سبحانه بالعطف بالفاء دون أن يأتي بالاستئناف المفسر للنداء على أن ما ذكر هنا من نداء نوح عليه السلام بعض ندائه وأن هذا المذكور مرتب معقب على شيء منه سابق عليه أقربه أن يكون ما أرشده إليه سبحانه في سورة المؤمنين ويشعر به قوله تعالى بعد هذا جواباً له ‏{‏يا نوح اهبط بسلام منا‏}‏ فيكون تقدير الكلام قال‏:‏ رب أنزلني منزلاً مباركاً- وما قدر له من الكلام ‏{‏فقال‏}‏ أي عقبة لما حمله على ذلك من رحمة النبوة وشفقة الأبوة وسجية البشر متعرضاً لنفحات الرحمة وعواطف العفو؛ أو الفاء تفصيل لمجمل «نادى» مثل ما في‏:‏ توضأ فغسل ‏{‏رب إن ابني‏}‏ أي الذي غرق ‏{‏من أهلي‏}‏ أي وقد أمرتني بحمل أهلي، وذلك الأمر محتمل للإشارة إلى إرادة نجاتهم ‏{‏وإن وعدك الحق‏}‏ أي الكامل في نجاتهم إلا من سبق عليه القول، وقد علمت ذلك في المرأة الكافرة ‏{‏وأنت أحكم الحاكمين*‏}‏ لأنك أعلمهم، ومن كان أعلم كان أحكم فتعلم أن قولك ‏{‏إلا من سبق عليه القول‏}‏ يصح باستثنائها وحدها، فإن كان ابني ممن نجا فأتني به؛ وإن كان هذا الدعاء عند حيلولة الموج بينهما فالمعنى‏:‏ فلا تهلكه ‏{‏قال يا نوح‏}‏ وأكد في نفي ما تقدم منه إثباته فقال‏:‏ ‏{‏إنه ليس من أهلك‏}‏ أي المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله‏:‏ ‏{‏إنه عمل‏}‏ أي ذو عمل، ولكنه جعله نفس العمل في قراءة الجماعة مبالغة في ذمه، وذلك لأن الجواهر متساوية الأقدام في نفس الوجود لا تشرف إلا بآثارها، فبين أنه ليس فيه أثر صالح أصلاً، ويثبت قراءة يعقوب والكسائي بالفعل أن من باشر السوء مطلق مباشرة وجبت البراءة منه، ولا سيما للأمر فلا يواصل إلا بإذن، وعبر بالعمل دون الفعل لزعمه أن أعماله مبنية على العلم، وأكده لما لا يخص من سؤال نوح عليه السلام هذا ‏{‏غير صالح‏}‏ بعلمي، وقد حكمت في هذا الأمر أني لا أنجي منه إلا من اتصف بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور، وأنت يخفي عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بمن ليس بؤمن لبنائك الأمر على ما نراه من ظاهره؛ وقد نقل الرماني عن الحسن أنه كان ينافق بإظهار الإيمان، وهذا يدل على أن الموافق في الدين ألصق ما يكون وإن كان في غاية البعد في النسب، والمخالف فيه أبعد ما يكون وإن كان في غاية القرب في النسب‏.‏

ولما تسبب عن هذا الجواب أن ترك السؤال كان أولى، ذكر أمراً كلياً يندرج فيه فقال‏:‏ ‏{‏فلا تسألن‏}‏ أي بنوع من أنواع السؤال ‏{‏ما ليس لك به علم‏}‏ فلا تعلم أصواب السؤال فيه أم لا، لأن اللائق بأمثالك من أولى القرب بناء أمورهم على التحقيق وانتظار الإعلام منا، انظر إلى قول موسى عليه السلام في حديث الشفاعة في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ «وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها» ومن المعلوم أن تلك النفس كانت كافرة من آل فرعون ‏{‏إني أعظك‏}‏ بمواعظي كراهية ‏{‏أن تكون‏}‏ أي كوناً تتخلق به ‏{‏من الجاهلين*‏}‏ أي في عداد الذين يعملون بالظن لأنهم لا سبيل لهم إلى الوقوف على حقائق الأمور من قبلنا فتسأل مثل ما يسألون‏.‏

ولما انجلى للسامع ما هو فيه صلى الله عليه وسلم من علو المقام وعظيم الشأن الموجب للعقاب على كثير من الصواب فتشوف للجواب، استأنف بيانه بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي مبادراً على ما يقتضيه له من كمال الصفات ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ، وأكد دلالة للسامعين على عظيم رغبته فقال‏:‏ ‏{‏إني أعوذ بك أن‏}‏ أي من أن ‏{‏أسألك‏}‏ أي في شيء من الأشياء ‏{‏ما ليس لي به علم‏}‏ تأدباً بإذنك واتعاظاً بموعظتك وارتقاء لما رقيتني إليه من علو الدرجة ورفيع المنزلة ‏{‏وإلا تغفر لي‏}‏ أي الآن وفي المستقبل ‏{‏وترحمني‏}‏ أي تستر زلاتي وتمحها وتكرمني ‏{‏أكن من الخاسرين*‏}‏ أي العريقين في الخسارة فكأنه قيل‏:‏ ماذا أجيب عن ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قيل‏}‏ بالبناء للمفعول دلالة على العظمة والجلال الذي تكون الأمور العظيمة لأجله بأدنى إشارة ‏{‏يا نوح اهبط‏}‏ أي من السفينة ‏{‏بسلام‏}‏ أي عظيم ‏{‏منا‏}‏ أي ومن سلمنا عليه فلا هلك يلحقه ‏{‏وبركات‏}‏ أي خيرات نامية عظيمة صالحة ‏{‏عليك‏}‏ أي خاصة بك ‏{‏وعلى أمم‏}‏ ناشئة ‏{‏ممن معك‏}‏ لكونهم على ما يرضينا ولا نمتعهم بالدنيا إلا قليلاً، ولهم إذا رجعوا إلينا نعيم مقيم، وقد دخل في هذا الكلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ‏{‏وأمم‏}‏ أي منهم ‏{‏سنمتعهم‏}‏ في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش على وفق علمنا وإرادتنا ولا بركات عليهم منا ولا سلام، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر البركات والسلام أولاً دليلاً على نفيهما ثانياً، والمتاع ثانياً، دليلاً على حذفه أولاً ‏{‏ثم يمسهم منا‏}‏ أي في الدارين أو في الآخرة أو فيهما ‏{‏عذاب أليم*‏}‏ لجريهم على غير هدينا وجرأتهم على ما يسخطنا، ويجوز أن يكون ‏{‏وأمم‏}‏ مبتدأ من غير تقدير صفة محذوفة، فيكون المسوغ للابتداء كون المقام مقام التفضيل؛ والعياذ‏:‏ طلب النجاة بما يمنع من الشر؛ والبركة‏:‏ ثبوت الخير بنمائه حالاً بعد حال، وأصله الثبوت، ومنه البروك والبركة لثبوت الماء فيها‏.‏

ذكر قصة نوح عليه السلام من التوراة وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن خنوخ بن يارد بن مهلاليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وذلك لأنه في أوائل السفر الأول منها‏:‏ وإن آدم طاف نحو حليلته فحبلت وولدت ابناً فسماه شيث وقال‏:‏ الآن أخلف الله عليّ نسلاً آخر بدل هابيل الذي قتله قابيل، وذلك بعد أن عاش آدم مائة وثلاثين سنة، وكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة، وعاش شيث مائة وخمس سنين فولد له أنوش، وكان جميع حياة شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة، فعاش أتوش تسعين سنة فولد له قينان وكان جيمع حياة أنوش تسعمائة وخمس سنة، وعاش قينان سبعين سنة فولد له مهلاليل وكان جميع حياة قينان تسعمائة وعشرين سنة، وعاش مهلاليل خمساً وستين سنة فولد له يارد وكانت مائة واثنتين وستين سنة فولد به خنوخ فكانت جميع حياة يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وعاش خنوخ خمساً وستين سنة فولد له متوشلح وكانت جميع حياة خنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، وعاش متوشلح مائة وسبعاً وثمانين سنة فولد له لمك وكانت جميع حياة متوشلح تسعمائة وتسعاً وستين سنة، وعاش لمك مائة واثنتين وثمانين سنة فولد له ابن فسماه نوحاً، ثم قال‏:‏ هذا يريحنا من أعمالنا، وكد أيدينا في الأرض التي قد لعنها الله، وكانت جميع أيام حياة لمك سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة، وتوفي ونوح ابن خمسمائة سنة‏.‏ فولد لنوح بنون‏:‏ سام وحام ويافث، فلما بدأ الناس أن يكثروا على وجه الأرض وولد لهم البنات نظر بنو الأشارف منهم بنات العامة حساناً جداً فأخذوا منهم النساء على ما اختاروا وأحبوا، فقال الله عند ذلك‏:‏ لا تحل عنايتي وشفتي على هؤلاء الناس لأنهم يتبعون أهواء الجسد واللحم وكانت على الأرض جبابرة في تلك الأيام ومن بعدها، لأن بني الأشراف دخلوا على بنات العامة فولد لهم جبابرة مذكورون، فرأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض هوئ فكرهم وحقدهم ردئ في جميع الأيام، فقال الرب‏:‏ أمحق الذين خلقت وأبيدهم عن جديد الأرض من الناس والبهائم حتى الهوام وطير السماء؛ وظفر نوح من الله برحمة ورأفة، وكان نوح رجلاً باراً تقياً في حقبه فأرضى الله، وفسدت الأرض بين يدي الله وامتلأت إثماً وفجوراً، فرأى الرب الإله أن الأرض قد فسدت وقال الله لنوح‏:‏ قد وصل إلى أمر جميع الناس وسوء أعمالهم لأن الأرض قد امتلأت إثماً وفجوراً بسوء سيرتهم‏.‏

فهأنذا مفسدهم مع الأرض فاتخذ لك أنت تابوتاً مربعاً من خشب الساج- وفي نسخة‏:‏ الشمشار- وأجعل في التابوت علالي‏.‏ واطلها بالقار من داخلها وخارجها، وليكن طول الفلك ثلاثمائة ذراع‏.‏ وعرضه خمسين ذراعاً، وسمكه ثلاثين ذراعاً، واجعل في التابوت كوى وليكن عرضها من أعلاها ذراعاً واحداً، واجعل باب الفلك في جانبه، واجعل فيه منازل أسفل وأوساط وعلالي‏.‏ وها أنذا محدر ماء الطوفان على الأرض لأفسد به كل ذي لحم فيه نسمة الحياة من تحت السماء، ويبيد كل ما على الأرض، وأثبت عهدي بيني وبينك‏.‏ وتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من ذوي اللحوم من كل صنف اثنان لتحيى معك، ولتكن ذكوراً وإناثاً، من كل الطيور كأجناسها‏.‏ ومن الأنعام لأصنافها، ومن كل الهوام التي تدب على الأرض لجواهرها، اثنين اثنين أدخل معك من كلها لتستحييها ذكراً وانثى، واجعل من كل ما يؤكل فاخزنه معك، وليكن مأكلك ومأكلها؛ فصنع نوح كل شيء كما أمر الله ثم قال الله لنوح‏:‏ ادخل أنت وكل أهل بيتك إلى التابوت لأني إياك وجدت باراً تقياً في هذا الحقب، ومن كل الأنعام الزكية أدخل معك سبعة سبعة من الذكور والإناث، ومن الأنعام التي ليست بزكية أدخل معك اثنين ذكوراً وإناثاً‏.‏ ومن الطير الزكي سبعة سبعة ذكوراً وإناثاً، ومن الطير الذي ليس بزكي اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً، ليحي منها نسل على وجه الأرض، لأني من الآن إلى سبعة أيام أهبط القطر على وجه الأرض أربعين يوماً ولياليها، وأبيد كل ما خلقت على وجه الأرض؛ فصنع نوح كما أمره الرب الإله‏.‏ فلما كان بعد بعد ذلك بسبعة ايام نزلت مياه الطوفان، تفجرت مياه الغمر وتفتحت مثاعب السماء‏.‏ وأقبلت الأمطار على وجه الأرض أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وفي هذا اليوم دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح ونساء بنيه الثلاث معه الفلك هم وجميع السباع لأجناسها وجميع الدواب لأصنافها وكل حشرة تدب على الأرض بجواهرها وجميع الطيور لأجناسها، ودخل مع نوح التابوت منكل عصفور ومن كل ذي جناحين اثنان اثنان، ومن كل ذي لحم فيه روح الحياة وكل شيء دخل من ذوي اللحوم دخلوا ذكوراً وإناثاً كما أمر الله نوحاً، ثم أغلق الله الرب الباب عليه، وكان الطوفان على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، وكثرت المياه حتى احتملت التابوت فارتفع عن الأرض، وعزرت المياه وكثرت على الأرض جداً وجعل التابوت يسير على وجه الماء واشتدت المياه على وجه الأرض جداً جداً‏.‏

وتوارت جميع الجبال العالية الشاهقة التي تحت السماء، وارتفعت المياة من فوق كل جبل خمسة عشر ذراعاً، وباد كل ذي لحم على الأرض من الطيور أجمع والسباع والدواب وجميع الحشرة التي تدب على الأرض وجميع الناس والبهائم، ومات كل شيء كان فيه نسمة الحياة مما في اليبس‏.‏ وبقي نوح ومن معه في الفلك، واشتدت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً؛ وإن الله ذكر نوحاً وكل السباع والدواب وجميع الطيور التي معه في التابوت‏.‏ فأهاج الله ريحاً على وجه الأرض فسكنت المياه والأمطار‏.‏ واشتدت ينابيع الغمر وميازيب وغاضت المياه بعد مائة وخمسين يوماً، وسكن التابوت ووقف في الشهر السابع لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر على جبال قودي وجعلت المياه تنصرف وتنتقص إلى الشهر العاشر، وظهرت رؤوس الجبال في أول يوم الشهر العاشر، فلما كان بعد ذلك بأربعين يوماً فتح نوح الكوة التي عملها في التابوت فأرسل الغراب، فخرج الغراب من عنده فلم يعد إليه حتى يبست المياه عن وجه الأرض، ثم أرسل الحمامة من بعده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة موضعاً لموطئ رجليها فرجعت إلى التابوت لأن المياه كانت بعد على وجه الأرض، فمد يده فأخذها وأدخلها إليه وانتظر سبعة أيام أخرى، ثم عاد فأرسل الحمامة فعادت عند المساء وفي منقارها ورقة زيتون، فعلم أن الماء قد غاض عن وجه الأرض فصبر أيضاً سبعة أيام أخر، ثم أرسل الحمامة فلم تعد إليه أيضاً، ففتح نوح باب الفلك فرأى فإذا وجه الأرض قد ظهر وجفت الأرض‏.‏ فكلم الرب الإله نوحاً وقال له‏:‏ اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل السباع التي معك من كل ذي لحم والطيور والدواب، وأخرج كل الهوام التي تدب على الأرض معك، ولتتولد وتنمو في الأرض وتكثر وتزداد على الأرض‏.‏ فخرج نوح ومن ذكر وبنى للرب مذبحاً وأخذ من جميع الدواب والطيور الزكية فأصعد منها على المذبح قرباناً للرب الإله، فقال الرب الإله‏:‏ لا أعود ألعن الأرض أبداً من أجل أعمال الناس لأن هوى قلب الإنسان وحقده رديء منذ صباه ولا أعود أيضاً أبيد كل حي كما فعلت، ومن الآن جميع أيام الأرض يكون فيها الزرع والحصاد والبرد والحر والقيظ والشتاء، فبارك الله على نوح وبنيه وقال لهم‏:‏ انموا واكثروا واملؤوا الأرض، وليغش رعبكم وخوفكم جميع السباع وبهائم الأرض وكل طيور السماء وكل دابة تدب على الأرض، وجميع حيتان البحور تكون تحت أيديكم، وكل الدواب الطاهرة الحية تكون لأكلكم، وقد جعلت الأشياء كلها حلالاً لكم مثل عشب البرية خضرها، وأما المخنوق الذي دمه فيه فلا تأكلوه فإن دمع نفسه، وأما دماؤكم من أنفسكم فأطلبها بالنهي من يد جميع الحيوان ومن يد جميع الناس، أي إنسان قتل أخاه طالبته بدمه، ومن سفك دم الإنسان سفك دمه لأن الله خلق آدم بصورته، وأنتم فانموا واكثروا وولدوا في الأرض وأكثروا فيها؛ وقال الله لنوح ولبنيه معه‏:‏ هأنذا مثبت عهدي بيني وبينكم ومع أنسالكم من بعدهم ومع كل نفس حية منكم، ومع الطيور والدواب ومع كل سباع الأرض جميع الذين خرجوا من الفلك‏.‏

وأثبت عهدي بيني وبينكم فلا يبيد كل ذي لحم أيضاً بماء الطوفان ولا يهبط الطوفان أيضاً ليفسد جميع الأرض، قال الله لنوح‏:‏ هذه علامة لعهدي الذي أجعله بيني وبينكم وبين كل نفس حية معكم في جميع أحقاب العالم، قد أظهرت قوسي في السحاب فهي أمارة ذكر العهد الذي بيني وبينك وبين أهل الأرض، فإذا أنشأت السحاب في الأرض وأظهرت قوس السحاب فاذكروا العهد الذي بيني وبينكم، وكان بنو نوح الذين خرجوا معه من التابوت سام وحام ويافث، وحاتم يكنى أبا كنعان، هؤلاء الثلاثة ثم بنو نوح، وتفرق الناس من هؤلاء في الأرض كلها؛ ثم ذكر أن نوحاً عليه السلام نام فرأى حام عريه فأظهر ذلك لأخويه، فتناول سام ويافث رداء فألقياه على أكتافهما ثم سعيا على أعقابهما مدبرين فواريا عرى أبيهما، فلما علم نوح ما صنع ابنه الأصغر دعا عليه أن يكون عبداً لأخويه، وكانت جميع أيام حياة نوح تسعمائة سنة وخمسين سنة، ثم توفي عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ ثم ذكر أن الناس بعده أرادوا أن يبنوا صرحاً لاحقاً بالسماء، واجتمع جميعهم على ذلك لأن لغتهم كانت واحدة ورأيهم واحد ففرق الله ألسنتهم وفرقهم من هنالك على وجه الأرض ولم يبنوا القرية التي هموا بها، ولذلك سميت بابل وبوبال معناه بالعبراني‏:‏ الشتات، وما في تفسير البغوي وغيره من أن عوج ابن عوق- بضمهما كما في القاموس- كان في زمن نوح وسلم من الطوفان، وأن الماء لم يجاوز ركبتيه ونحو هذا كذب بحت منابذ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏ ونحوها، فإن كل من ذكر ذلك ذكر أن موسى عليه السلام قتله كافراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏

‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

ولما تمت هذه القصة علىلنحو الوافي ببيان اجتهاد نوح علبه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل إليها إلا من جهة الملك العلام، فهي على إزالة اللبس عن أمره صلى الله عليه وسلم أوضح من الشمس، قال تعالى منبهاً على ذلك‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض، العلية الرتب عن يد المتناول ‏{‏من أنباء الغيب‏}‏ أي أخباره العظيمة، ثم أشار إلى أنه لا يزال يجدد له أمثالها بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏نوحيها إليك‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها، فأشار إلى أن ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله‏:‏ ‏{‏ما كنت تعلمها‏}‏ أي على هذا التفصيل ‏{‏أنت‏}‏ ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال‏:‏ ‏{‏ولا قومك‏}‏ أي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء‏.‏

ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم- وإن كان عاماً لهم- بعض الزمان الماضي، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل هذا‏}‏ أي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا عرض لقومك إلا العناد ‏{‏فاصبر‏}‏ على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه ‏{‏إن العاقبة‏}‏ أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة ‏{‏للمتقين*‏}‏ أي العريقين في مخافة الله في كل زمن، وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة‏.‏

ولما تم من ذلك ما هو كفيل بغرض السورة، وختم بأن العاقبة دائماً للمتقين، أتبع بالدليل على ذلك من قصص الأنبياء مع الوفاء بما سيقت له قصة نوح- على جميعهم السلام- من الحث على المجاهرة بالإنذار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى‏}‏ أي ولقد ارسلنا إلى ‏{‏عاد أخاهم‏}‏ وبينه فقال‏:‏ ‏{‏هوداً‏}‏ ولما تقدم أمر نوح مع قومه، استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أو لا‏؟‏ فاستأنف الجواب بقوله‏:‏ ‏{‏قال يا قوم‏}‏ الذين هم أعز الناس لدي ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي ذا الجلال والإكرام وحده؛ ثم صرح وعلل فقال‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من إله‏}‏ أي معبود بحق ‏{‏غيره‏}‏ فدعا إلى أصل الدين كما هو دأب سائر النبين والمرسلين؛ ثم ختم ذلك بمواجهتهم بما يسوءهم من الحق وما ثناه عن ذلك رجاء ولا خوف فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أنتم إلا مفترون*‏}‏ أي متعمدون الكذب على الله في إشراككم به سبحانه لأن ما على التوحيد من أدلة العقل غير خاف على عاقل فكيف مع تنبيه النقل‏!‏ وذلك مكذب لمن أشرك، أي فاحذروا عقوبة المفتري؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك غرض غير نصحهم بقوله موضع «إني ناصح لكم بهذا الأمر فلا يسوءكم مواجهتي لكم فيه بما تكرهون» ‏{‏يا قوم‏}‏ مكرراً لاستعطاف ‏{‏لا أسألكم‏}‏ أي في المستقبل كما لم أسالكم في الماضي ‏{‏عليه‏}‏ أي على هذا الإنذار ‏{‏أجراً‏}‏ أي فلست موضع تهمة ‏{‏إن‏}‏ أي ما؛ ‏{‏أجري‏}‏ ثم وصف من توكل عليه سبحانه بما يدل على الكفاية فعليّ وجوب شكره فقال‏:‏ ‏{‏إلا على الذي فطرني‏}‏ أي أبتدأ خلقي ولم يشاركه فيّ أحد فهو الغني المطلق لا أوجه رغبتي إلى غيره كما يجب على كل أحد لكونه فطرة‏.‏

ولما كان الخلاف الذي لا حظ فيه جهة الدنيا لا يحتاج الإنسان في الدلالة على أن صاحبه ملجأ إليه من جهة الله، وأنه لا نجاة إلا به إلى غير العقل، سبب عن قوله هذا الإنكار عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون*‏}‏‏.‏

ولما دعاهم مشيراً إلى ترهيبهم مستدلاً على الصدق بنفي الغرض، رغبهم في إدامة الخوف مما مضى بقوله‏:‏ ‏{‏ويا قوم‏}‏ ومن هم أعز الناس عليّ ولهم قدرة على ما طلب منهم ‏{‏استغفروا ربكم‏}‏ أي اطلبوا غفرانه بطاعتكم له لما يجب له بإحسانه إليكم‏.‏ وأشار إلى علو رتبة التوبة بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏ أي تسموا عالي هذه الرتبة بأن تطلبوا ستر الله لذنوبكم ثم ترجعوا إلى طاعته بالندم والإقلاع والاستمرار ‏{‏يرسل السماء‏}‏ أي الماء النازل منها أو السحاب بالماء ‏{‏عليكم مدراراً‏}‏ أي هاطلة بمطر غزير متتابع ‏{‏ويزدكم قوة‏}‏ أي عظيمة مجموعة ‏{‏إلى قوتكم‏}‏ ثم عطف على قوله ‏{‏استغفروا‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولا تتولوا‏}‏ أي تكلفوا أنفسكم غير ما جبلت عليه من سلامة الانقياد فتبالغوا في الإعراض- بما أشار إليه إثبات التاء ‏{‏مجرمين*‏}‏ أي قاطعين لأنفسكم- ببناء أمركم على الظنون الفاسدة عن خيرات الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما محّض لهم النصح على غاية البيان، ما كان جوابهم إلا أن ‏{‏قالوا‏}‏ أي عاد بعد أن أظهر لهم هود عليه السلام من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر ‏{‏يا هود‏}‏ نادوه باسمه غلظة وجفاء ‏{‏ما جئتنا ببينة‏}‏ فأوضحوا لكل ذي لب أنهم مكابرون لقويم العقل وصريح النقل، فهم مفترون كما كان العرب يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أتاهم من الآيات على يده ما يفوت الحصر ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ ‏{‏وما نحن‏}‏ وأغرقوا في النفي فقالوا‏:‏ ‏{‏بتاركي آلهتنا‏}‏ مجاوزين لها أو صادرين ‏{‏عن قولك‏}‏ وتركهم للعطف بالفاء- المؤذنة بأن الأول سبب الثاني أي الواو في قولهم‏:‏ ‏{‏وما نحن لك‏}‏ أي خاصة، وأغرقوا في التفي فقالوا‏:‏ ‏{‏بمؤمنين*‏}‏- دليل على أنهم تركوا إتباعه عناداً، لا أنهم يعتقدون أنه لم يأت ببينة؛ وإلى ذلك يرشد أيضاً تعبيرهم بالاسمية التي تدل على الثبات فإذا نفي لم ينتف الأصل؛ والبينة‏:‏ الحجة الواضحة في الفصل بين الحق والباطل، والبيان‏:‏ فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس محرراً مما سواه، والحامل على ترك البينة بعد ظهورها صد الشبهة عنها أو تقليد الرؤساء في دفعها واتهام موردها أو اعتقاد أصول فاسدة تدعو إلى جحدها أو العناد للحسد ونحوه، والجامع له كله وجود الشبهة‏.‏

ولما قالوا هذا الكلام البين الفساد من غير تعرض لنقض ما قال لهم بنوع شبهة، كان كأنه قيل لهم‏:‏ هذا الذي قلته لكم وهو لا أبين منه ولا أعدل، افرضوا أنه ما ظهر لكم صحته فما تقولون إنه حملني عليه مع أن فيه منابذتكم وأنتم أولاد عمي وأعز الناس عليّ‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏إن نقول إلا اعتراك‏}‏ أي أصابك وغشيك غشياناً التصق بك التصاق العروة بما هي فيه مع التعمد والقوة ‏{‏بعض آلهتنا بسوء‏}‏ من نحو الجنون والخبال فذاك الحامل لك على النهي عن عبادتها‏.‏

ولما كان الطبع البشري قاضياً بأن الإنسان يخشى ممن مسه بسوء وهو يتوهم أنه قادر على ضرره فلا يواجهه بما يكره، وكان قولهم محركاً للسامع إلى الاستعلام عن حوابه لهم، استأنف سبحانه الإخبار عنه بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ نافياً لما قالوا مبيناً أن آلهتهم لا شيء ضاماً لهم معها، وأكد لأنهم بحيث لا يظنون أن أحداً لا يقول ما قاله ‏{‏إني أشهد الله‏}‏ أي الملك الأعظم ليقوم عذري عنده وعدل أدباً مع الله عن أن يقول‏:‏ وأشهدكم- لئلا يتوهم تسوية- إلى صيغة الأمر تهاوناً بهم فقال‏:‏ ‏{‏واشهدوا‏}‏ أي أنتم لتقويم الحجة عليكم لأيكم ويبين عجزكم ويعرف كل أحد أنكم بحيث يتهاون بكم وبدينكم ولا يبالي بكم ولا به ‏{‏أني بريء مما تشركون*‏}‏ وبين سفولها بقوله‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ كائناً ما كان ومن كان، فكيف إذا لم يكن إلا جماداً ‏{‏فكيدوني‏}‏ حال كونكم ‏{‏جميعاً‏}‏ أي فرادى إن شئتم أو مجتمعين أنتم وآلهتكم‏.‏

ولما كانت المعاجلة في الحرب أهول، وكان شأنها أصعب وأخطر، بين عظمها بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم لا تنظرون*‏}‏ والكيد‏:‏ طلب الغيظ بالسر في مكر، وهذه الآية من أعلام النبوة الواضحة لهود عليه السلام، فكأنه قيل‏:‏ هب أن آلهتنا لا شيء، فما حملك على الاجتراء على مخالفتنا نحن وأنت كثرتنا وقوتنا وأنت لا تزيد على أن تكون واحداً منا فقال‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ أي جسرت على ذلك لأني ‏{‏توكلت‏}‏ معتمداً ‏{‏على الله‏}‏ الملك المرهوب عقابه الذي لا ملك سواه ولا رب غيره؛ وبين إحاطة ملكه بقوله‏:‏ ‏{‏ربي وربكم‏}‏ أي الذي أوجدنا ودبر أمورنا قبل أن يخلقنا فعلم ما يعمل كل منا في حق الآخرة لأنه ‏{‏ما من دابة‏}‏ أي صغرت أو كبرت ‏{‏إلا هو آخذ‏}‏ أي أخذ قهر وغلبة ‏{‏بناصيتها‏}‏ أي قادر عليها، وقد صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة، لأن الكل جارون مع مراده لا مع مرادهم بل لا ينفك أحد عن كراهة لبعض ما هو فيه فدل ذلك قطعاً على أنه بغير مراده وإنما هو بمراد قاهر قهره على ذلك وهو الملك الأعلى سبحانه؛ والناصية‏:‏ شعر مقدم الرأس، ومن أخذ بناصيته فقد انقاد لأخذه لا يستطيع ميلاً ‏{‏إن‏}‏ أي لأن ‏{‏ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بما أقامني فيه ‏{‏على صراط‏}‏ أي طريق واسع بين ‏{‏مستقيم*‏}‏ ظاهر أمره لكل أحد لا لبس فيه أصلاً ولا خلل ولا اضطراب ولا اعوجاج بوجه، فلذلك كان كل من في الكون يتألهه ويدعو ويخافه ويرجوه وإن اتخذ بعضهم من دونه شركاء، وأما ما يعبد من دونه فلا يعظمه إلا عابده، وأما غير عابده فإنه لا يقيم له وزناً؛ فصح بهذا غالب على كل شيء غلبة يعلمها كل موجود من غير خفاء أصلاً، فهو مرجو مرهوب بإجماع العقلاء بخلاف معبوداتكم، والحاصل أنه يلزم الصراط المستقيم الظهور، فيلزم عدم الاختلاف لانتفاء اللبس، فمن كان عليه كان عليّ القدر شهير الأمر، بصيراً بما يريد، مع الثبات والتمكن، مرهوب العاقبة، مقصوداً بالاتباع والمحبة، من لم يقبل إليه ضل، ومن أعرض عنه أخذ لكثرة أعوانه وعز سلطانه، فظهرت قدرته على عصمة من يتوكل عليه وعجز معبوداتهم معهم، لأن نواصي الكل بيده وهو ربها وربهم ورب كل شيء، فقد انطبق ختام الآية على قولهم ‏{‏ما جئتنا ببينة‏}‏ رداً له لأن من كان على صراط مستقيم لم يكن شيء أبين من أمره، وعلى جوابه في توكله وما في حيزه أتم انطباق؛ والناصية‏:‏ مقدم الشعر من الرأس، وأصلها الاتصال من قولهم‏:‏ مفازة تناصي مفازة- إذا كانت متصلة بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ ولو أدنى تولية- بما يشير إليه حذف التاء، فعليكم اللوم دوني، لأني فعلت ما عليّ ‏{‏فقد‏}‏ أي بسبب أني قد ‏{‏أبلغتكم ما‏}‏ أي كل شيء ‏{‏أرسلت‏}‏ أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره ‏{‏به إليكم‏}‏ كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم ‏{‏ويستخلف ربي‏}‏ أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه ‏{‏قوماً غيركم‏}‏ يخلفونكم في دياركم وأموالكم، فتكونون أعداءه، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم ‏{‏ولا تضرونه‏}‏ أي الله بإعراضكم ‏{‏شيئاً‏}‏ ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي‏.‏

ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته، قدم قوله‏:‏ ‏{‏على كل شيء‏}‏ صغيراً أو كبيراً جليل أو حقير ‏{‏حفيظ*‏}‏ أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر، لأن الحفظ‏:‏ الحراسة، ويلزمها العلم والقدرة، فمن القدرة حافظ العين، أي لا يغلبه نوم، والحفيظة- للحمية والغضب، ومنهما معاً المحافظة- للمواظبة على الشيء؛ والتوالي عن الشيء‏:‏ الذهاب إلى غير جهته إعراضاً عنه؛ والإبلاغ‏:‏ إلحاق الشيء نهايته؛ والاستخلاف‏:‏ جعل الثاني بدلاً من الأول يقوم مقامه؛ والضر‏:‏ إيجاب الألم بفعله أو التسبب له‏.‏

ولما تم ذلك كان كأنه قيل‏:‏ فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا ‏{‏ولما جاء أمرنا‏}‏ أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد ‏{‏نجينا‏}‏ أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة ‏{‏هوداً والذين آمنوا‏}‏ كائنين ‏{‏معه‏}‏ في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال‏:‏ إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف‏.‏

ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته، فإن طاعته نعمة منه عليه، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏برحمة منا‏}‏ تحقيقاً لتوكل عبدناً؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة‏:‏ ‏{‏ونجيناهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله‏:‏ ‏{‏من عذاب غليظ*‏}‏ أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله ‏{‏ومن خزي يومئذ‏}‏ كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما صرح به في قصة صالح؛ والنجاة‏:‏ السلامة من الهلاك؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه‏.‏

ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب، قال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏تلك من أنباء الغيب‏}‏‏:‏ ‏{‏وتلك عاد‏}‏ أي قصة القوم البعداء البغضاء، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل عن أنبيائهم، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئاً من علمها ولا حرفاً واحداً ولا سمع بعاد ولا هود، وتلخيص قصتهم أنهم ‏{‏جحدوا‏}‏ أي كذبوا عناداً واستهانة ‏{‏بآيات ربهم‏}‏ المحسن إليهم ‏{‏وعصوا رسله‏}‏ فإن من عصى واحداً منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة ‏{‏واتبعوا‏}‏ أي بغاية جهدهم ‏{‏أمر كل جبار‏}‏ أي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلا الله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه ‏{‏عنيد*‏}‏ أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم ‏{‏وأُتبعوا‏}‏ جميعاً بعد إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع ‏{‏في هذه الدنيا‏}‏ حقرها في هذه العبارة بما أشارت إليه الإشارة مع التصغير، وبما دل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود ‏{‏لعنة‏}‏ أي طرداً وبعداً وإهلاكاً ‏{‏ويوم القيامة‏}‏ أي كذلك بل أشد، فكأنه قيل‏:‏ أفما لمصيبتهم من تلاف‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، ‏{‏ألا‏}‏ مفتتحاً للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على طائفة قد حدثت بالقرب من زماننا يصوّبون جيمع الملل وخصوا عاداً هذه لكونها أغناهم بأن قالوا‏:‏ إنهم من المقربين إلى الله وإنهم بعين الرضى منه، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم، وهم أتباع ابن عربي الكافر العنيد أهل الاتحاد، المجاهرون بعظيم الإلحاد، المستخفون برب العباد، فلذلك قال تعالى مبيناً لحالهم بياناً لا خفاء معه‏:‏ ‏{‏إن عاداً كفروا‏}‏ ولم يقصر الفعل، بل عداه إعظاماً لطغيانهم فقال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلاً خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق إلا منه، فكان كفرهم أغلظ الكفر، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئاً مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة، ومن كفر من أحسن إليه بعد بعداً لا قرب معه‏.‏

ولما كان الأمر عظيماً والخطب جليلاً، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال‏:‏ ‏{‏ألا بعداً لعاد‏}‏ هو من بعد- بكسر العين إذا كان بعده بالهلاك، وبينهم بقوله‏:‏ ‏{‏قوم هود‏}‏ تحقيقاً لهم لأنهم عادان‏:‏ الأولى والآخرة، وإيماء إلى أن استحقاقهم للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك؛ والجحد‏:‏ الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها، وهو ضد الاعتراف كما أن النفي ضد الإثبات، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب؛ واللعنة‏:‏ الدعاء بالإبعاد، وأصلها الإبعاد من الخير؛ والإتباع‏:‏ جعل الثاني على أثر الأول، والإبلاغ أخص منه، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏‏}‏

ولما انقضت قصة عاد على ما أراد سبحانه، أتبعها قصة من كانوا عقبهم في الزمن ومثلهم في سكنى أرض العرب وعبادة الأوثان والمناسبة في الأمر المعذب به لأن الموصل للصيحة إلى الأسماع هو الريح وفي خفاء أمرهم، مفصلاً على أهل ذلك الزمان فقال‏:‏ ‏{‏*وإلى‏}‏ أي ولقد أرسلنا إلى ‏{‏ثمود أخاهم‏}‏ وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏صالحاً‏}‏ ثم أخرج قوله صلى الله عليه وسلم على تقدير سؤال فقال‏:‏ ‏{‏قال يا قوم‏}‏ أي يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي الملك الأعظم وحده لأن عبادتكم له مع غيره ليست بشيء؛ ثم استأنف تفسير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ أغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من إله غيره‏}‏ جرياً على منهاج الدعاة إلى الله في أصل الدين، وهو إفراد المنعم بالعبادة‏.‏

ولما أمرهم بذلك، ذكرهم قدرته ونعمته مرغباً مرهباً فقال‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏أنشأكم‏}‏ أي ابتدأ خلقكم ‏{‏من الأرض‏}‏ بخلق آدم عليه السلام منها بغير واسطة وبخلقكم من المني من الدم وهو من الغذاء وهو من النبات وهو من الأرض كما أنشأ أوثانكم منها ‏{‏و‏}‏ وفع مقداركم عليه بأن ‏{‏استعمركم‏}‏ أي أهلكم لما لم يؤهل له الأوثان من أن تكونا عماراً ‏{‏فيها‏}‏ فلا تنسوا حق إلهكم وما فضلكم به من حق أنفسكم بخضوعكم لما لا يساويكم فكيف بمن أنشأكم وإياها؛ والإنشاء‏:‏ الابتداء بالإيجاد من غير استعانة بشيء من الأسباب‏.‏

ولما بين لهم سبحانه عظمته، وكان الشيطان قد شبه عليهم لأنه لعظمته لا يوصل إليه بوسيلة كما هو حال الملوك وألقى إليهم أن الأوثان وسائل، نفى ذلك مبيناً طريق الرجوع إليه بقوله‏:‏ ‏{‏فاستغفروه‏}‏ أي فأقبلوا بكل قلوبكم عليه طالبين أن يستر ذنوبكم؛ وذكر شرط المغفرة بقوله مشيراً بأداة البعد إلى عظيم المنزلة‏:‏ ‏{‏ثم توبوا‏}‏ أي ارجعوا بجميع قلوبكم ‏{‏إليه‏}‏ ثم علل ذلك بلطفه وعطفه ترغيباً في الإقبال إليه فقال مؤكداً لأن من يرى إمهاله للعصاة يظن الظنون ومن عصاه كان عمله عمل من ينكر قربه وإجابته‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ الذي أخلصت له العبادة لإحسانه إليّ وأدعوكم إلى الإخلاص له لإحسانه إليكم ‏{‏قريب‏}‏ من كل من أقبل إليه من غير حاجة إلى معاناة مشي ولا حركة جارحة ‏{‏مجيب*‏}‏ لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين معاً‏.‏

ولما دعاهم إلى الحق ونصب لهم عليه من الأدلة ما هم به معترفون وذكرهم نعمه مومئاً إلى التحذير من نقمه، وسهل لهم طريق الوصول إليه، ما كان جوابهم إلا أن سلخوه من طور البشرية لمحض التقليد، فلذلك استأنف الإخبار عن جوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي ثمود ‏{‏يا صالح‏}‏ نادوه باسمه قلة أدب منهم وجفاء ‏{‏قد كنت فينا‏}‏ أي فيما بينا إذا تذاكرنا أمرك ‏{‏مرجواً‏}‏ أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا‏:‏ ‏{‏قبل هذا‏}‏ أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد؛ ثم بينوا ما أوجب سقوطه عندهم بقولهم منكرين إنكار محترق ‏{‏أتنهانا‏}‏ أي مطلق نهي ‏{‏أن نعبد‏}‏ أي دائماً ‏{‏ما يعبد آباؤنا‏}‏ وعبروا بصيغة المضارع تصويراً للحال كأن آباءهم موجودون فلا تمكن مخالفتهم إجلالاً لهم، فأجلوا من يرونه سبباً قريباً في وجودهم ولم يهابوا من أوجدهم وآباءهم أولاً من الأرض وثانياً من النطف، ثم خولهم فيما هم فيه، ثم فزعوا- في أصل الدين بعد ذكر الحامل لهم على الكفر المانع لهم من تركه- إلى البهت بأن ما يوجب القطع لكل عاقل من آيته الباهرة لم يؤثر عندهم إلا ما هو دون الظن في ترك إجابته، فقالوا مؤكدين لأن شكهم حقيق بأن ينكر لأنه في أمر واضح جداً لا يحتمل الشك أصلاً‏:‏ ‏{‏وإننا لفي شك‏}‏ وزادوا التأكيد بالنون واللام وبالإشارة بالظرف إلى إحاطة الشك بهم ‏{‏مما‏}‏ ولما كان الداعي واحداً وهو صالح عليه السلام لم يلحق بالفعل غير نون واحدة هي ضميرهم بخلاف ما في سورة إبراهيم عليه السلام فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏تدعونا إليه‏}‏ من عبادة الله وحده ‏{‏مريب*‏}‏ أي موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين؛ والرجاء‏:‏ تعلق النفس لمجيء الخير على جهة الظن، ونظيره الأمل والطمع؛ والنهي‏:‏ المنع من الفعل بصيغة لا تفعل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 68‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

ولما أبرزوا له أمرهم في قالب الشك على سبيل الجزم، قابلهم بمثله على سبيل الفرض إنصافاً لهم لئلا يلائم الخطاب حال المخاطبين، فاستأنف سبحانه الإخبار عنه بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي صالح نادياً لهم إلى النظر في أمره برفق ‏{‏يا قوم أرءيتم‏}‏ أي أخبروني ‏{‏إن كنت‏}‏ أورده بصيغة الشك لأن خطابه للجاحدين ‏{‏على بينة من ربي‏}‏ أي المحسن إليّ، لا شك عندي فيها ‏{‏وآتاني منه رحمة‏}‏ أي أوامر هي سبب الرحمة ‏{‏فمن ينصرني‏}‏ وأظهر موضع الإضمار وعبر بالاسم الأعظم لاقتضاء المقام التهويل فقال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏إن عصيته‏}‏ أي إن وقوعكم في الشك على زعمكم حملكم على هيئة الإباء في التلبس بأعمالهم مع زوالهم واضمحلالهم لو كانوا موجودين وعصيتموهم لم تبالوا بهم، وأما أنا فالذي أمرني بعبادته حي قادر على جزاء من يطيعه أو يعصيه، وأقل ما يحمل على طاعته الشك في عقوبته، وهو كاف للعاقل في ترك الخطر ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن نهيكم لي عن الدعاء إليه سبحانه أنكم ما ‏{‏تزيدونني‏}‏ بذلك شيئاً في عملي بما ترمونه مني من عطفي عنه باتباعكم في عملكم أو الكف عنكم لأصير في عداد من يرجى عندكم ممن له عقل ‏{‏غير تخسير*‏}‏ أي إيقاعي في الخسارة على هذا التقدير‏:‏ فلا تطمعوا في تركي لشيء من مخالفتكم ما دمتم على ما أنتم عليه، والآية كما ترى ناظرة إلى قوله تعالى ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏‏.‏

ولما أخبرهم أن معصية الله خسران، ذكرهم أمر الناقة التي أخرجها سبحانه لهم من الأرض شاهداً على كونهم مساوين للأوثان في كونهم منها مفضلين عليها بالحياة محذراً لهم من شديد انتقامه فقال‏:‏ ‏{‏ويا قوم هذه‏}‏ إشارة إلى حاضر، وذلكم بعد أن أخرجها لهم سبحانه عندما دعاه صالح عليه السلام؛ وبين الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ناقة الله‏}‏ أي الملك الأعلى، ثم بني حالاً من ‏{‏آية‏}‏ مقدماً عليها لئلا يكون صفة لها فقال‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ أي خاصة لنظركم إياها عندما خرجت ولكل من سمع بها بعدكم، وليس الخبر كالمعاينة، أشير إليها حال كونها ‏{‏آية‏}‏ بكون الله تعالى أخرجها لكم من صخرة، وهي عشراء على حسب ما اقترحتم وأنتم تشاهدون وبكونها تنفرد بشرب يوم، وتنفردون كلكم بشرب يوم وتنفرد برعي يوم، وتنفرد جميع الحيوانات من دوابكم ووحوش بلادكم برعي يوم إلى غير ذلك مما أنتم له مبصرون وبه عارفون ‏{‏فذروها‏}‏ أي اتركوها على أيّ حالة كان ترككم لها ‏{‏تأكل‏}‏ أي مما أرادت ‏{‏في أرض الله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله التي خلقها منها ‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏ والأكل‏:‏ مضغ يقع عند بلع؛ والمس مطلق الإصابة ويكون بين الحيوان وغيره، واللمس أخص منه لما فيه من الإدراك ‏{‏فيأخذكم‏}‏ أي فيتسبب عن ذلك أن يأخذكم ‏{‏عذاب قريب*‏}‏ أي من زمن إصابتكم لها بالسوء؛ ثم اشار إلى قرب مخالفتهم لأمره فيها بقوله مسبباً عن أوامره ونواهيه ومعقباً‏:‏ ‏{‏فعقروها‏}‏ أي الناقة ‏{‏فقال‏}‏ أي عند بلوغه الخبر ‏{‏تمتعوا‏}‏ أي أنتم تعيشون ‏{‏في داركم‏}‏ أي داركم هذه، وهي بلدة الحجر ‏{‏ثلاثة أيام‏}‏ أي بغير زيادة عليها، فانظروا ماذا يغني عنكم تلذذكم وترفهكم وإن اجتهدتم فيه‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ هل في هذا الوعيد مثنوية، قال مجيباً‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الوعد العالي الرتبة في الصدق والغضب ‏{‏وعد غير مكذوب*‏}‏ أي فيه؛ والتمتع‏:‏ التلذذ بالمدركات الحسان من المناظر والأصوات وغيرها مما يدرك بالحواس، وسميت البلاد داراً لأنها جامعة لأهلها- كما تجمع الدار- ويدار فيها، وأشار إلى تعقب العذاب للأيام وتسببه عن الوعيد المعين بقوله‏:‏ ‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ بالفاء بخلاف ما في قصة هود وشعيب عليهما السلام، أي مع مضي الأيام كان أول ما فعالنا أن ‏{‏نجينا‏}‏ بنا لنا من العظمة أولياءنا ‏{‏صالحاً والذين آمنوا معه‏}‏ من كيد قومهم، وبين أن إحسانه سبحانه لا يكون إلا فضلاً منه بقوله‏:‏ ‏{‏برحمة منا‏}‏ وذلك أنه عليه السلام قال لهم‏:‏ تصبحون غداً يوم مؤنس- يعني الخميس- ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم عروبة- يعني الجمعة- ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم أول- أي الأحد- فقال التسعة رهط الذين عقروا الناقة‏:‏ هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً قد كنا ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح‏:‏ أنت قتلتهم‏!‏ ثم هموا به فقامت عشيرته دونهم ولبسوا السلاح وقالوا لهم‏:‏ والله لا تقتلونه أبداً فقد وعدكم أن العذاب يكون بكم بعد ثلاث، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً، وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون، فانصرفوا فلما أصبحت وجوههم مصفرة عرفوا أنه قد صدقهم، فطلبوه ليقتلوه فجاء إلى بطن منهم يقال له ‏(‏بنو غنم‏)‏ فنزل على سيدهم رجل فغيبه عنده، فعدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقالوا‏:‏ يا نبي الله‏!‏ إنهم يعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فدلوهم عليه فأتوه فقال الغنمي‏:‏ نعم عندي ولا سبيل إليه، فتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم كذا ذكر ذلك البغوي عن ابن اسحاق ووهب وغيرهما مطولاً‏.‏

ولما ذكر نجاتهم من كل هلكة، ذكر نجاتهم من خصوص ما عذب به قومهم فقال‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي ونجيناهم من ‏{‏خزي‏}‏ أي ذل وفضيحة ‏{‏يومئذ‏}‏ أي يوم إذ جاء أمرنا بإهلاكهم بالصيحة وحل بهم دونهم فرقاً بين أوليائنا وأعدائنا، وحذف «نجينا» هنا يدل على أن عذابهم دون عذاب عاد؛ ثم عقب ذلك بتعليله إهلاكاً وإنجاء باختصاصه بصفات القهر والغلبة والانتقام فقال‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك كما أحسن إلى الأنبياء من قبلك ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏القوي‏}‏ فهو يغلب كل شيء ‏{‏العزيز*‏}‏ أي القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه أو على الامتناع منه، من عز الشيء أي امتنع، ومنه العزاز- للأرض الصلبة الممتنعة بذلك عن التصرف فيها؛ والخزي‏:‏ العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من مثله؛ ثم بين إيقاعه بأعدائه بعد إنجائه لأوليائه فقال معظماً للأخذ بتذكير الفعل‏:‏ ‏{‏وأخذ الذين ظلموا الصيحة‏}‏ وأشار إلى عظمة هذه الصيحة بإسقاط علامة التأنيث وسبب عنها قوله‏:‏ ‏{‏فأصبحوا في ديارهم جاثمين*‏}‏ أي ساقطين على وجوههم، وقيل‏:‏ جاثين على الركب موتى لا حراك بهم، وتقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في الأعراف، وخصت هود بما ذكر فيها لأن مقصودها أعظم نظر إلى التفصيل، وكل من الديار والصيحة أقرب إلى ذلك‏.‏

ولما كان الجثوم كناية عن الموت أوضحه بقوله‏:‏ ‏{‏كأن‏}‏ أي كأنهم ‏{‏لم يغنوا‏}‏ أي يقيموا أغنياء لاهين بالغناء ‏{‏فيها‏}‏ ثم نبه- على ما استحقوا به ذلك لمن لعله يغفل فيسأل- بقوله مفتتحاً بالأداة التي لا تقال إلا عند الأمور الهائلة‏:‏ ‏{‏ألا إن ثموداً‏}‏ قراءة الصرف دالة على الاستخفاف بهم لطيشهم في المعصية ‏{‏كفروا ربهم‏}‏ أي أوقعوا التغطية والستر على المحسن إليهم بالخلق والرزق والإرسال وهو الظاهر وبصفاته وأفعاله، فلا يخفى على أحد أصلاً، فإيصال الفعل دون قصره كما في أكثر أضرابه بيان لغلظة كفرهم؛ ثم كرر ذلك تأكيداً له وإعلاماً بتأبيد هلاكهم بقوله‏:‏ ‏{‏ألا بعداً لثمود*‏}‏ ترك صرفهم في قراءة غير الكسائي إيذاناً بدوام لبثهم في الطرد والبعد؛ والصيحة‏:‏ صوت عظيم من فم حي، والجثوم لدوام مكان واحد أو السقوط على الوجه، وقيل‏:‏ القعود على الركب؛ وقال ‏{‏أصبحوا‏}‏ زيادة في التخويف والتأسيف بما وقع لهم من التحسير لو أدركه أحد منهم لأن الإنسان يفرح إذا أصبح بقيامه من نومه مستريحاً قادراً على ما يريد من الحركات للاستمتاع بما يشتهي من التصرفات، فأصبح هؤلاء- بعد هذه الصفة على ما قص الله- خفوتا أجمعين كنفس واحدة رجالاً ونساء صغاراً وكباراً كأنهم بم يكونوا أصلاً، ولا أصدروا فصلاً ولا وصلاً كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة كأن لم يغنوا أي يقيموا لانقطاع آثارهم إلا ما بقي من أجسادهم الدالة على الخزي؛ والمغاني‏:‏ المنازل، وأصل الغناء الاكتفاء؛ ومعنى «ألا» التنبيه؛ قال الرماني‏:‏ وهي ألف الاستفهام دخلت على «لا» فالألف تقتضي معنى، و«لا» تنفي معنى، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي الغفلة- انتهى‏.‏

وكان حقيقته- والله أعلم- أن «لا» دخلت على ما بعدها فنفته، ثم دخلت عليها همزة الإنكار فنفتها، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات فرجع المعنى كما كان على أتم وجوه التنبيه والتأكيد، لأن إثبات المعنى بعد نفيه آكد من إثباته عرياً عن النفي ولا سيما إذا كان المفيد لذلك الإنكار، وهذا المعنى مطرد في ألا العرضية وهلا التخصيصية ونحوهما، ويمشي في كل صلة بأن تردها إلى أصل مدلولها في اللغة ثم تتصرف بما يقتضيه الحال- والله الهادي‏!‏ ولما جاز الصرف في ثمود باعتبار أنه اسم أبي القبيلة وعدمه باعتبار إطلاقه على القبيلة اختير الصرف في النصب فقط لخفته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 76‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

ولما انقضت القصة على هذا الوجه الرائع، أتبعها قصة لوط عليه السلام إذ كانت أشهر الوقائع بعدها وهي أفظع منها وأروع، وقدم عليها ما يتعلق بها من أمر إبراهيم عليها لسلام ذكر بشراه لما في ذلك كله من التنبيه لمن تعنت بطلب إنزال الملائكة في قولهم ‏{‏أو جاء معه ملك‏}‏ على أن ذلك ليس عزيزاً عليه‏.‏ وقد أكثر من فعله ولكن نزولهم مرهب، وأمرهم عند المكاشفة مرعب، وأما مع الستر فلا يقطع تعنتهم، هذا مع ما في ذلك من مناسبة أمر هذا الولد لأمر الناقة في تكوين كل منهما بخارق للعادة إشارة إلى تمام القدرة وكمال العلم المبني عليه أمر السورة في إحكام الكتاب وتفصيله وتناسب جدالي نوح وإبراهيم عليهما السلام في أن كلاً منهما شفقة على الكافرين ورجاء لنجاتهم من العذاب بحسن المثاب، ولعله سبحانه كرر «لقد» في صدرها عطفاً على ما في قصة نوح للتنبيه على مثل الأغراض، لأن «قد» للتوقع فجاءت لتؤذن بأن السامع في حال توقع لذلك لأنه إذا انقضت قصة الخبر عما بعدها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ قال الرماني‏:‏ ودخلت اللام لتأكيد الخبر كما يؤكد القسم ‏{‏جاءت رسلنا‏}‏ أي الذين عظمتهم من عظمتنا، قيل‏:‏ كانوا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام ‏{‏إبراهيم‏}‏ هو خليل الله عليه السلام ‏{‏بالبشرى‏}‏ أي التي هي من أعظم البشائر وهي إكرامه بإسحاق عليه السلام ولداً له من زوجته سارة رضي الله عنها، جاءوه في الصفة التي يحبها وهي صفة الأضياف، فلم يعرفهم مع أنه الخليل بل إنكارهم كما قال تعالى في الذاريات ‏{‏قال سلام قوم منكرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 25‏]‏ فيحمل إنكاره أولاً على الاستغراب بمعنى أنه لم ير عليهم زيّ أهل تلك البلاد ولا أثر سفر، فكأنه قيل‏:‏ ما كان من أمرهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا سلاماً‏}‏ أي سلمنا عليك سلاماً عظيماً ‏{‏قال سلام‏}‏ أي ثابت دائم عليكم لا زوال له أبداً، فللرفع مزية على النصب لأنه إخبار عن ثابت، والنصب تجديد ما لم يكن، فصار مندرجاً في ‏{‏فحيوا بأحسن منها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 86‏]‏ ثم أكرم نزلهم وذهب يفعل ما طبعه الله عليه من سجايا الكرم وأفعال الكرام في أدب الضيافة من التعجيل مع الإتقان ‏{‏فما لبث‏}‏ أي فتسبب عن مجيئهم وتعقبه أنه ما تأخر ‏{‏أن جاء بعجل حنيذ*‏}‏ أي مشوي على حجارة محماة في أخدود وفوقه حجارة محماة ليشتد نضجه، فكان بعد الشيّ يقطر دسمه لأنه سمين، كل ذلك وهو لا يعرف أنهم ملائكة، بل هو قاطع بأنهم ممن يأكل، وهذا ناظر إلى قول قوم نوح ‏{‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏ وقوله ‏{‏ولا أقول للذين تزدري أعينكم‏}‏ الآية، أي إن الله جعل المعاني في القلوب وناط بها السعادة والشقاوة، وقد تخفي تلك المعاني كما خفي على أكمل أهل ذلك الزمان أن ضيفه ملائكة حتى خاف منهم وقد أتوه بالبشرى، فلا ينبغي لأحد أن يحتقر أحداً إلا بما أذن الله فيه‏.‏

ولما وضع الطعام بين أيديهم لم يلموا به ‏{‏فلما رأى أيديهم‏}‏ أي الرسل عقب الوضع سواء ‏{‏لا تصل إليه‏}‏ أي إلى العجل الذي وضعه ليأكلوه ‏{‏نكِرهم‏}‏ أي اشتدت نكارته لهم وانفعل لذلك، وهذا يدل على ما قال بعض العلماء‏:‏ إن نكر أبلغ من أنكر ‏{‏وأوجس‏}‏ أي أضمر مخفياً في قلبه ‏{‏منهم خيفة‏}‏ أي عظيمة لما رأى من أحوالهم وشاهد من جلالهم، وأصل الوجوس‏:‏ الدخول، والدليل- على أن خوفه كان لعلمه بالتوسم أنهم ملائكة نزلوا لأمر يكرهه من تعذيب من يعز عليه أو نحو هذا- أنهم ‏{‏قالوا لا تخف‏}‏ ثم عللوا ذلك بقولهم ‏{‏إنآ أرسلنآ‏}‏ أي ممن لا يرد أمره ‏{‏إلى قوم لوط‏}‏ فإنهم نفوا الخوف عنه بالإعلام بمن أرسلوا إليه، لا بكونهم ملائكة، قالوا ذلك وبشروه بالولد ‏{‏وامرأته‏}‏ أي جاءته الرسل بالبشرى أي ذكروها له والحال أن زوجة إبراهيم التي هي كاملة المروءة وهي سارة ‏{‏قآئمة‏}‏ قيل‏:‏ على باب الخيمة لأجل ما لعلها تفوز به من المعاونة على خدمتهم، فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله ‏{‏بالبشرى‏}‏ ‏{‏فضحكت‏}‏ أي تعجبت من تلك البشرى لزوجها مع كبره، وربما طنته من غيرها لأنها- مع أنها كانت عقيماً- عجوز، فهو من إطلاق المسبب على السبب إشارة إلى أنه تعجب عظيم ‏{‏فبشرناها‏}‏ أي فتسبب عن تعجبها أنا أعدنا لها البشرى مشافهة بلسان الملائكة تشريفاً لها وتحقيقاً أنه منها ‏{‏بإسحاق‏}‏ تلده ‏{‏ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ أي يكون يعقوب ابناً لإسحاق، والذي يدل على ما قدّرته- من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت- ما يأتي عن نص التوراة، والحكم العدل على ذلك كله قوله تعالى في الذاريات ‏{‏قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28-29‏]‏- الآية‏.‏

ولما شافهوها بذلك، صرحت بوجه العجب من أنه جامع بين عجبين في كونه منه ومنها بأن ‏{‏قالت يا ويلتي‏}‏ وهي كلمة تؤذن بأمر فظيع تخف على أفواه النساء ويستعملنها إلى اليوم، لكنهن غيرن في لفظها كما غير كثير من الكلام؛ والويل‏:‏ حلول الشر؛ والألف في آخره بدل عن ياء الإضافة، كنى بها هنا عن العجب الشديد لما فيه من الشهرة ومراجمة الظنون؛ وقال الرماني‏:‏ إن معناها الإيذان بورود الأمر الفظيع كما تقول العرب‏:‏ يا للدواهي‏!‏ أي تعالين فإنه من أحيانك فحضور ما حضر من أشكالك‏.‏

ولما كان ما بشرت به منكراً في نفسه بحسب العادة قالت‏:‏ ‏{‏ءَألد وأنا‏}‏ أي والحال أني ‏{‏عجوز وهذا‏}‏ أي من هو حاضري ‏{‏بعلي شيخاً‏}‏ ثم ترجمت ذلك بما هو نتيجته فقالت مؤكدة لأنه- لما له من خرق العوائد- في حيز المنكر عند الناس‏:‏ ‏{‏إن هذا‏}‏ أي الأمر المبشر به ‏{‏لشيء عجيب‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فماذا قيل لها‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي الملائكة متعجبين من تعجبها ‏{‏أتعجبين من أمر الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، وهو لا ينبغي لك لأنك معتادة من الله بما ليس لغيركم من الخوارق، والعجب إنما يكون مما خرج عن أشكاله وخفي سببه، وأنت- لثبات علمك بالسبب الذي هو قدرة الله على كل شيء وحضوره لديك مع اصطفاء الله لكم وتكرر خرقه للعوائد في شؤونكم- لست كغيرك ممن ليس كذلك؛ ثم عللوا إنكارهم لتعجبها بقولهم‏:‏ ‏{‏رحمت الله‏}‏ أي كرامة الذي له الإحاطة بصفات الجلال والإكرام ‏{‏وبركاته‏}‏ أي خيراته النامية الثابتة ‏{‏عليكم‏}‏ وبينوا خصوصيتهم بإسقاط أداة النداء مدحة لهم فقال‏:‏ ‏{‏أهل البيت‏}‏ قد تمرنتم على مشاهدة العجائب لكثرة ما ترون من آثاره بمثل ذلك وغيره؛ ثم علل إحسانه إليهم مؤكداً تثبيتاً لأصل الكلام الذي أنكرته فقال‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي بخصوص هذا الإحسان ‏{‏حميد مجيد‏}‏ أي كثير التعرف إلى من يشاء من جلائل التعمم وعظيم المقدور بما يعرف أنه مستحق الحمد على المجد، وهو الكرم الذي ينشأ عنه الجود، فلما سمعوا ذلك واطمأنوا، أخذ في قص ما كان بعده، فقال مشيراً بالفاء إلى قلة زمن الإنكار الذي هو سبب الفزع‏:‏ ‏{‏فلما ذهب‏}‏ بانكشاف الأمر ‏{‏عن إبراهيم الروعُ‏}‏ أي الخوف والفزع الشديد ‏{‏وجآءته البشرى‏}‏ فامتلأ سروراً ‏{‏يجادلنا‏}‏ أي أخذ يفعل معنا بمجادلة رسلنا فعل المجادل الذي يكثر كلامه إرادة الفتل مخاطبه عما يقوله ‏{‏في قوم لوط‏}‏ أي يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء، من الجدل وهو الفتل، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً؛ ثم علل مجادلته بقوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لحليم‏}‏ أي بليغ الحلم، وهو إمهال صاحب الذنب على ما يقتضيه العقل ‏{‏أواه‏}‏ أي رجاع للتأوه خوفاً من التقصير ‏{‏منيب‏}‏ أي رجاع إلى الله بالسبق في ارتقاء درج القرب، فهو- لما عنده هذه المحاسن- لا يزال يتوقع الإقلاع من العصاة‏.‏

ولما كان أكثر المجادلة لما عنده من الشفقة على عباد الله لما له من هذه الصفات الجليلة، أعلمه الله أن الأمر قد ختم بقوله حكاية أن الرسل قالت له بعد طول المجادلة منادين بالأداة التي هي أم الباب إعلاماً بأن ما بعدها عظيم الشأن عالي المنزلة‏:‏ ‏{‏يا إبراهيم أعرض‏}‏ أي بكليتك ‏{‏عن هذا‏}‏ أي السؤال في نجاتهم؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأنه بمجادلته في حيز من ينكر بتّ الأمر‏:‏ ‏{‏إنه قد‏}‏ افتتحه بحرف التوقع لأنه موضعه ‏{‏جآء أمر ربك‏}‏ أي الذي عودك بإحسانه الجم، فلولا أنه حتم الأمر بعذابهم لأمهلهم لأجلك، ولذا عطف على العلة قوله مؤكداً إعلاماً بأنه أمر قد انبرم ومضى‏:‏ ‏{‏وإنهم آتيهم‏}‏ أي إتياناً ثابتاً ‏{‏عذاب غير مردود‏}‏ أي بوجه من الوجوه من أحد كائناً من كان؛ الإعراض‏:‏ الانصراف، وحقيقته الذهاب عن الشيء في جهة العرض؛ والرد‏:‏ إذهاب الشيء إلى ما جاء منه كالرجع؛ والدفع أعم لأنه قد يكون إلى جهة القدام؛ فلما علم مراد الله فيهم، قدمه على مراده ولم ينطق بعده ببنت شفة‏.‏

ذكر هذه القصة من التوراة‏:‏ قال في السفر الأول‏:‏ واستعلن الله لإبراهيم في مرج- وفي نسخة‏:‏ بين بلوط ممرى الأموراني- وكان جالساً على باب خيمته إذ اشتد النهار، فرفع عينيه فنظر فإذا هو بثلاثة رجال وقوف على رأسه، فلما رآهم أحضر إليهم من باب الخيمة وسجد على الأرضِ وقال‏:‏ يا رب- وفي نسخة‏:‏ يا ولي الله- إن كان لي عندك مودة فلا تبعد عن عبدك حتى آتي بما أغسل به أرجلكم، واتكئوا تحت الشجرة وأصيبوا شيئاً من الطعام تقرون به أنفسكم، ثم حينئذٍ تجوزون لأنكم مررتم بعبدكم بغتة فقالوا له‏:‏ اصنع كما قلت، فاستعجل إبراهيم فأحضر إلى الخيمة إلى سارة وقال‏:‏ عجلي بثلاثة آصع من درمك- وفي نسخة‏:‏ دقيق سميد- فاعجنيه واخبزي منه مليلاً، وسعى إلى قطيع البقر فأخذ عجلاً سميناً شاباً فدفعه إل الغلام وأمر بتعجيل صنعته وأخذ سمناً ولبناً والعجل الذي صنع له أيضاً فقربه إليهم، وكان هو واقفاً بين أيديهم تحت الشجرة وقالوا له‏:‏ أين سارة امرأتك‏؟‏ فقال‏:‏ في الخيمة، فقال له‏:‏ إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي في الحياة ولها منك ابن، فسمعت سارة وهي على باب الخيمة مستترة وكان هو خلفها، وكان إبراهيم وسارة قد شاخا وقدم سنهما وانقطع عن سارة سبيل النساء، فضحكت سارة في قلبها وقالت‏:‏ أمن بعد ما بليت أرجع شابة وسيدي قد شاخ‏؟‏ فقال الله لإبراهيم‏:‏ لم ضحكت سارة وقالت‏:‏ أني لي بالولد وقد شخت‏؟‏ أيعسر هذا على الله‏؟‏ إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي حية ولها ابن، فجحدت سارة وقالت‏:‏ كلا ما ضحكت، لأنها فزعت، فقال‏:‏ كلا‏!‏ ولكنك قد ضحكت، ثم قام الرجال وتعمدوا طريق سدوم وعامورا، وانطلق معهم إبراهيم ليشيعهم‏.‏ وقال الله‏:‏ أأكتم عبدي إبراهيم شيئاً مما أصنع‏؟‏ وإبراهيم يكون رئيساً لشعب عظيم كبير، وتتبارك به شعوب الأرض، لأني عالم أنه يوصي بنيه وأهل بيته من بعده أن يحفظوا طرق الرب ليعملوا بالبر والعدل، لأن الرب يكمل لإبراهيم جميع ما وعده به‏.‏

فقال الرب لإبراهيم‏:‏ لقد وصل إليّ حديث سدوم وعاموراً وقد كثرت خطاياهم جداً، ثم ولى القوم ومضوا إلى سدوم، وكان إبراهيم بعد واقفاً قدام الرب، فدنا إبراهيم وقال‏:‏ يا رب‏!‏ تهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد‏؟‏ إن كان في القرية خمسون باراً أتهلكهم بغضب واحد‏؟‏ حاشاك يا رب أن تصنع هذا الصنيع وتهلك البريء مع السقيم، ويكون البريء بحال السقيم، حاشا لك يا حاكم الأرض كلها‏!‏ لا يكون هذا من صنيعك‏!‏ فقال الرب‏:‏ إن وجدت بسدوم خمسين باراً في القرية عفوت عن جميع البلد من أجلهم، فأجاب إبراهيم وقال‏:‏ إني قد بدأت بالكلام بين يدي الرب، وإنما أنا تراب ورماد، فإن نقص من الخمسين باراً خمسة تخرب القرية كلها من أجل الخمسة‏؟‏ فقال‏:‏ لا أخربها إن وجدت بها خمسة وأربعين باراً، فعاد إبراهيم وقال له‏:‏ فإن وجد فيها أربعون‏؟‏ فقال‏:‏ لا أخربها إن وجدت فيها أربعين، فقال‏:‏ لا يمكن الرب كلامي فأتكلم، فإن كان هناك ثلاثون‏؟‏ فقال‏:‏ لا أخربها إن وجدت فيها ثلاثين، فقال‏:‏ إني قد أمعنت في الكلام بين يدي الرب، فإن وجد بها عشرون‏؟‏ فقال‏:‏ لا أخربها من أجل العشرين، فقال لانشقن على الرب، فأتكلم هذه المرة يارب فقط، فإن وجد بها عشرة رهط‏؟‏ فقال‏:‏ لا أفسدها من أجل العشرة؛ فارتفع استعلان الرب عن إبراهيم لما فرغ إبراهيم من كلامه ورجع إبراهيم إلى موضعه- انتهى‏.‏ وقد مضى أمر حبل سارة وولادها في البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

ولما انقضى أمر إنبائهم ببشارة الأولياء وهلاك الأعداء، وعلم من ذلك أنهم لا ينزلون إلاّ للأمور الهائلة والأحوال المعجبة، أخذ يقص أمرهم مع لوط عليه السلام، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فعلوا مع إبراهيم انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ما ذكر، ثم فارقوه نحو لوط، ولم يذكر الحرف المصدري لأن سياقه ومقصود السورة لا يقتضي ذلك كما نشير إليه في العنكبوت‏:‏ ‏{‏ولما جآءت رسلنا‏}‏ على ما قارنهم من عظمتنا ‏{‏لوطاً‏}‏ بعد انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام، وبين البلدين ثمانية أميال، وقيل‏:‏ أربعة فراسخ، استضافوه فلم يجد بداً من قبولهم على ما أوصى الله بالضيف مطابقاً لعوائد أهل المكارم، فقبلهم وأزمع المقاتلة عنهم لما رأى من حسن أشكالهم ورونق جمالهم مع ما يعلم من قبح أفعال قومه وخبث سرائرهم، ولما جاؤوه على هذه الصفة ‏{‏سيء بهم‏}‏ أي حصلت له المساءة بسبب مجيئهم إلى قريته لما يعلم من لؤم أهلها، والتعبير عن هذا المعنى بالمبني للمفعول أحضر وأوقع في النفس وأرشق ‏{‏وضاق بهم ذرعاً‏}‏ أي ذرعه أي اتساعه في كل وقت قوة أوتيها، وهو مثل يقال لمن لم يجد من المكروه مخلصاً، ومادة ذرع- بأيّ ترتيب كان- تدور على الاتساع لأنه لا يذرع إلاّ الكثير، وذرع الرمل‏:‏ اتسع، وموت ذريع‏:‏ فاش، والمذرع‏:‏ الذي أمه عربية وأبوه غير عربي، فهو أكثر أنتشاراً ممن انحصر في أحدهما؛ والذريعة‏:‏ ما يختلي به الصيد، فهو يوسع له من الأمل ما يحمله على الإقدام، وحلقة يتعلم عليها الرمي، لأنها تسع السهم، أو لأن مصيبها واسع الأمر في صناعة الرمي، والوسيلة لأنها توصل المتوسل؛ والذعر‏:‏ الخوف، لاتساع الفكر فيه وتجويز أدنى احتمال؛ والعذر‏:‏ إيساع الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير، من العذوّر- للحمار الواسع الجوف، وهو أيضاً الملك لسعته، والعذار‏:‏ أوسع ما في الوجه، وأعذرت الغلام‏:‏ ختنته، أي أوسعت أكرته، والإعذار- لطعام الختان ونحوه منه، وعذرة الجارية موجبة لعذرها في النفرة للخوف على نفسها، والعذرة‏:‏ وجع في الحلق، وهو سقوطه حتى يغمز، كأنه شبه بعذرة البكر في سده الحلق بما يوجب الغمز، وكذا العذرة- للناصية لبذل الجهد في المدافعة عنها، والعذراء‏:‏ نجم إذا طلع اشتد الحر فاتسع بساط الأرض، والعذرة- بفتح ثم كسر‏:‏ فناء الدار، وبه سمي الحدث، والعذراء‏:‏ شيء من حديد يعذب به الإنسان، كأنه سمي لأنه يوسع الخوف بما يجنب ما يوجب الاعتذار، فلا تزال تلك الحديدة بكراً لا يوجد من يعذب بها، وأما عذر- بالتشديد- إذا قصر فهو للسلب، أي فعل ما لا يوجد له عذر، وكذا تعذر الأمر أي صعب، يعني أنه تحنّب العذر فلم يبق لسهولته وجه، وأعذر- إذا كثرت عيوبه، أي دخل فيما يطلب له العذر كأنجد‏.‏

ولما ذكر حاله، ذكر قاله بقوله‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ أي لوط ‏{‏هذا‏}‏ أي اليوم ‏{‏يوم عصيب*‏}‏ أي شديد جداً لما أعلم من جهالة مَن أنا بين ظهرانيهم، وهو مشتق من العصب وهو أطناب المفاصل وروابطها، ومدراه على الشدة ‏{‏وجاءه قومه‏}‏ أي الذين فيهم قوة المحاولة ‏{‏يهرعون‏}‏ أي كأنهم يحملهم على ذلك حامل لا يستطيعون دفعه ‏{‏إليه‏}‏ أي في غاية الإسراع فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه، فهو يضطرب لذلك، أو لأجل الرعب من لوط عليه السلام أو من الملائكة عليهم السلام‏.‏

ولما كان وجدانهم- فكيف عصيانهم- لم يستغرق زمن القبل، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏ومن قبل‏}‏ أي قبل هذا المجيء ‏{‏كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يعملون‏}‏ أي مع الاستمرار ‏{‏السيئات‏}‏ أي الفواحش التي تسوء غاية المساءة فضربوا بها ومرنوا عليها حتى زال عندهم استقباحها، فهو يعرف ما يريدون، وكأنهم كانوا لا يدعون مليحاً ولا غيره من الغرباء، فلذلك لم يذكر أن الرسل عليهم السلام كانوا على هيئة المرد الحسان، ولا قيد الذكران في قصتهم في موضع من المواضع بالمرودية‏.‏ فكأنه قيل‏:‏ فما قال لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال يا قوم‏}‏ مستعطفاً لهم ‏{‏هؤلاء بناتي‏}‏ حادياً لهم إلى الحياء والكرم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما نفعل بهن‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏هن‏}‏ ولما كان في مقام المدافعة باللين، قال إرخاء للعنان في تسليم طهارة ما يفعلونه على زعمهم مشيراً بلطافة إلى خبث ما يريدونه‏:‏ ‏{‏أطهر لكم‏}‏ وليس المراد من هذا حقيقته، بل تنبيه القوم على أنهم لا يصلون إليهم إلا إن وصلوا إلى بناته لأن الخزي فيهما على حد سواء أو في الضيف أعظم، ومثل هذا أن يشفع الإنسان فيمن يضرب، فإذا عظم الأمر ألقى نفسه عليه فصورته أنه فعله ليقيه الضرب بنفسه، ومعناه احترامه باحترامه، وعلى هذا يدل قوله في الآية الأخرى ‏{‏إن كنتم فاعلين‏}‏ وهنا قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي الملك الأعظم في هذا الأمر الذي تريدونه ‏{‏ولا تخزون‏}‏ أي توقعوا بي الفضيحة التي فيها الذل والهوان والعار ‏{‏في ضيفي‏}‏ إذ لا يشك ذو مسكة من أمره في أن التقوى إذا حصلت منعت من الأمرين، وأن الخزي على تقدير عدمها في البنات أعظم لأنه عار لازم للزوم البنات للأب، وكل هذا دليل على أنه لا يشك أنهم آدميون ولم يلم بخاطر أنهم ملائكة، فهو تنبيه للكفار على أنه لا ينتفع بإنزال الملائكة إلا البار الراشد التابع للحق؛ ثم أنكر أشد الإنكار حالهم في أنهم لا يكون منهم رشيد حثاً على الإقلاع عن الغي ولزوم سبيل الرشد فقال‏:‏ ‏{‏أليس منكم رجل‏}‏ أي كامل الرجولية ‏{‏رشيد*‏}‏ كامل الرشد ليكفكم عن هذا القبيح، فلم يكن منهم ذلك، بل ‏{‏قالوا لقد علمت‏}‏ أي يا لوط مجرين الكلام على حقيقته غير معرجين على ما كني به عنه ‏{‏ما لنا في بناتك‏}‏ وأغرقوا في النفي فقالوا‏:‏ ‏{‏من حق‏}‏ أي حاجة ثابتة، ولم يريدوا به ضد الباطل لأن البنات والضيف في نفي حقهم عنهم سواء، وأكدوا معلمين بما لهم من الرغبة في الفجور وقاحة وجرأة فقالوا‏:‏ ‏{‏وإنك لتعلم‏}‏ أي علماً لا تشك فيه ‏{‏ما نريد*‏}‏ وهو إتيان الذكور للتطرق والتطرف، فحملوا عرضه لبناته على الحقيقة خبثاً منهم وشرعوا يبنون على ذلك بوقاحة وعدم مبالاة بالعظائم، فأخبر تعالى عن قوله لهم على طريق الاستئناف بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي متمنياً أن يكون له بهم طاقة ليروا ما يصنع من الإيقاع بهم متفجعاً على فوات ذلك ‏{‏لو أن لي بكم‏}‏ أي في دفعكم ‏{‏قوة‏}‏ بنفسي ‏{‏أو‏}‏ لو أني ‏{‏آوي‏}‏ من الأعوان والأنصار ‏{‏إلى ركن شديد*‏}‏ أي جماعة هم كالركن الموصوف بالشدة لحلت بينكم وبين ما جئتم له، وحذفه أبلغ لذهاب النفس فيه كل مذهب؛ والسوء‏:‏ ما يظهر مكروهه لصاحبه؛ والعصيب‏:‏ الشديد في الشر خاصة كأنه التف شره؛ والقوة خاصة يمكن أن يقع بها الفعل وأن لا يقع؛ والركن‏:‏ معتمد البناء بعد الأساس، والركن هنا من هو مثله؛ والشدة‏:‏ مجمع يصعب معه الإمكان، ووصفه الركن بالشدة وهو يتضمنها تأكيد يدل على أن قومه كانوا في غاية القوة والجلادة، وأنه كان يود معاجلتهم لو قدر‏.‏

وذلك أن مادة ‏(‏ركن‏)‏ بكل ترتيب تدور على الرزانة، من ركن- بالضم بمعنى رزن، ويلزمهما القوة، ومنه الركن للجانب الأقوى والأمر العظيم وما يتقوى به من ملك وجند وغيره والعز والمنعة، ومن ذلك النكر بالضم للدهاء والفطنة، والنكر للمنكر والأمر الشديد وما يخرج من الزحير من دم أو قيح، ونكر الأمر‏:‏ صعب وطريق ينكور‏:‏ على غير قصد، والمنكر ضد المعروف لأن الشيء إذا جهل صعب أمره، وتناكر القوم‏:‏ تعادوا، والتنكر‏:‏ التغير من حال يسر إلى حال يكره، والمكنر- كمحدث‏:‏ الضخم السمج، ويلزم الرزانة أيضاً الميل والسكون، ومنه ركن إليه- بالفتح‏:‏ مال وسكن، وركن بالمنزل- بالكسر‏:‏ أقام؛ والكنارة- بالكسر والتشديد‏:‏ الشقة من ثياب الكتان، لأنه يمال إليه لبهجته، وكذا الكنارات للعيدان والطبول، والكران ككتاب للعود أو الصنج، أو يكون ذلك من الشدة لقوة أصواتها- والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

فلما عظم الشقاق وضاق الخناق كان كأنه قيل‏:‏ فما قال له الرسل‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ ودلوا بحرف النداء الموضوع للبعد على أنه كان قد خرج عن الدار وأجاف بابها وأن الصياح كان شديداً ‏{‏يا لوط‏}‏ إنك لتأوي إلى ركن شديد؛ ثم عللوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏إنا رسل ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإحسانك وكل ما ترى مما يسوءك ويسرك؛ ثم لما ثبت له ذلك كان من المحقق أنه سبب في ألا يدانيه معه سوء فأوضحوه بقولهم‏:‏ ‏{‏لن يصلوا إليك‏}‏ من غير احتياج إلى الربط بالفاء، أي ونحن مهلكوهم وقالبوا مدنهم بهم ‏{‏فأسر‏}‏ أي سر بالليل ماضياً ‏{‏بأهلك‏}‏ موقعاً ذلك السير والإسراء ‏{‏بقطع‏}‏ أي بطائفة، أي والحال أنه قد بقي عند خروجك جانب ‏{‏من الَّيل ولا يلتفت‏}‏ أي ينظر إلى ورائه ولا يتخلف ‏{‏منكم أحد‏}‏ أي لا تلتفت أنت ولا تدع أحداً من أهلك يلتفت ‏{‏إلا امرأتك‏}‏ استثناء من «أحد» بالرفع والنصب لأن المنهي كالمنفي في جواز الوجهين، والنهي له صلى الله عليه وسلم، فالفعل بالنسبة إليه منهي، وبالنسبة إليهم منفي‏.‏ ويمكن أن يكون أخرجها معه لأن معنى الاستثناء أنه غير مأمور بالإسراء بها إلا أنه منهي عنه، واستثناءها من الالتفات معهم مفهم أنه لا حجر عليه في الإسراء بها، أو أنه خلفها فتبعتهم والتفتت، فيكون قراءة النصب من ‏{‏أهلك‏}‏، وقراءة الرفع من ‏{‏أحد‏}‏ ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل مخالفتها للمستثنى منه في عدم النهي، ولذلك عللوا ما أفهمه إهمالها من الإسراء والنهي من أنها تلتفت بقولهم مؤكدين لأن تعلق الأمل بنجاتها شديد رحمة لها‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي الشأن ‏{‏مصيبها‏}‏ لا محالة ‏{‏ما أصابهم‏}‏ سواء التفت أو لا، تخلفت أو لا، ثم ظهر لي من التعبير في حقها باسم الفاعل وفي حقهم بالماضي أنه حكم بإصابة العذاب لهم عند هذا القول للوط عليه السلام لأن ذنوبهم تمت، وأما هي قإنما يبرم الحكم بذلك في حقها عند تمام ذنوبها التي رتبت عليها الإصابة وذلك عند الالتفات‏.‏

ولما عبروا بالماضي تحقيقاً للوقوع وتنبيهاً على أنه تقدم دخولها معهم في أسباب العذاب، كان منبهاً لأن يقال‏:‏ كان الإيقاع بهم قد دنا بهم جداً‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم، وأكد تحقيقاً للوقوع تلذيذاً به ولأنه- لقرب الوقت- بحيث ينكر‏:‏ ‏{‏إن موعدهم‏}‏ أي لابتداء الأخذ ‏{‏الصبح‏}‏ وكأن لوطاً عليه السلام أبطأ في جميع أهله وما يصلحهم، فكان فعله فعل من يستبعد الصبح، فأنكروا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏أليس الصبح بقريب*‏}‏ أي فأسرع الخروج بمن أمرت بهم؛ والإسراء‏:‏ سير الليل كالسرى‏.‏

ولما انقضى تسكين لوط عليه السلام والتقدم إليه فيما يفعل، أخبر تعالى عن حال قومه فقال‏:‏ ‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ بالفاء لما مضى في قصة صالح عليه السلام من التسبيب والتعقيب، أي فلما خرج منها لوط بأهله جاءنا أمرنا، ولما جاء أمرنا الذي هو عذابنا والأمر به ‏{‏جعلنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏عاليها‏}‏ أي عالي مدنهم وهم فيها ‏{‏سافلها وأمطرنا عليها‏}‏ أي على مدنهم بعد قلبها من أجلهم وسيأتي في سورة الحجر سر الإتيان هنا بضمير «ها» دون ضمير «هم» ‏{‏حجارة من سجيل‏}‏ أي مرسلة من مكان هو في غاية العلو ‏{‏منضود‏}‏ بالحجارة هي فيه متراكبة بعضها على بعض حال كونها ‏{‏مسومة‏}‏ أي معلمة بعلامات تدل على أنها معدة للعذاب من السيما والسومة وهي العلامة تجعل للإبل السائمة لتتميز إذا اختلطت في المرعى، وفي الذاريات

‏{‏حجارة من طين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 33‏]‏ وذلك أن الحجارة أصلها تراب يجعل الله فيه بواسطة الماء قابلية للاستحجار كما جعل فيه قابلية التحول إلى المعدن من الذهب والفضة والحديد وغيرها، فباعتبار أصله هو طين، وباعتبار أوله حجر وكبريت ونار، ولعل حجر الكبريت أثقل الحجارة مع ما فيه من قوة النار وقبح الريح؛ ثم فخمها بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ وعبر بالرب إشارة إلى كثرة إحسانه وإليه وأنه إنما أمره صلى الله عليه وسلم بالإنذار وحمة لأمته التي جعلها خير الأمم وسيجعلها أكثر الأمم، ولا يهلكها كما أهلكهم؛ ومادة سجل- بأي ترتيب كان- تدور على العلو، من الجلس لما ارتفع عن الغور وهو النجد، ويلزم منه الغلظ والعلو، ومن الغلظ الجلس للغليظ من الأرض والجمل الوثيق، ويلزم العلو التصويب ومن جلس- إذا قعد؛ والسجل للدلو العظيمة، ويكون غالباً في مقابلتها أخرى، كلما نزلت واحدة طلعت الأخرى، فتاتي المساجلة بمعنى المباراة والمفاخرة، والسجل‏:‏ الضرع العظيم، والسجل- بالكسر وشد اللام‏:‏ الكتاب لأنه يذكر فيه ما يكون به المفاخرة والمغالبة؛ وسلج الطعام‏:‏ بلعه، والسلجان‏:‏ نبات رخو، كأنه سمي بذلك لأن أغصانه تأخذ إلى أسفل لرخاوتها، وقد دل على هذا المعنى في هذه الآية بثلاثة أشياء‏:‏ الإمطار، ولفظ «على»، وسجيل‏.‏

ولما كان المعنى أنها من مكان هو في غاية العلو ليعظم وقعها، حسن كل الحسن اتباع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وما هي‏}‏ على شدة بعد مكانها ‏{‏من الظالمين‏}‏ أي من أحد من العريقين في الظلم في ذلك الزمان ولا هذا ولا زمن من الأزمان ‏{‏ببعيد‏}‏ لئلا يتوهم الاحتياج في وصولها إلى المرمى بها إلى زمن طويل‏.‏

ذكر هذه القصة من التوراة‏:‏ قال في السفر الأول بعد ما مضى في قصة بشرى إبراهيم عليه السلام‏:‏ فأتى الملكان إلى سدوم عشاء، وكان لوط جالساً على باب سدوم، فنظر إليهما لوط فتلقاهما، ثم خرّ على وجهه ساجداً على الأرض وقال‏:‏ إني طالب إليكما يا سيدي، اعدلا إلى منزل عبدكما فبيتا فيه واغسلا أقدامكما وبكرا فانطلقا في طريقكما، فقالا‏:‏ كلا‏!‏ ولكنا نبيت في السوق، فألح عليهما لوط إلحاحاً شديداً فانصرفا معه ودخلا منزله فأعد لهما طعاماً، ومن قبل وقت الهجوع إذا أهل القرية أهل سدوم قد أحاطوا بالباب من الشبان إلى المشايخ جميع الشعب بأسره، فدعوا بلوط وقالوا له‏:‏ أين الرجلان اللذان أتياك ممسيين أخرجهما إلينا فنعرفهما- وفي نسخة‏:‏ حتى نواقعهما- فخرج لوط إليهم وأغلق الباب خلفه، فقال لهم لوط‏:‏ لا تسيئوا بي يا إخوة‏!‏ هذا لي بنتان لم يمسهما رجل، أخرجهما إليكم فاصنعوا بهما ما حسن في أعينكم، ولا ترتكبوا من هذين الرجلين شيئاً لأنهما ولجا ظلال بيتي، فقالوا له‏:‏ تنح عنا، إن واحداً أتى ليسكن بيتنا فصار يحكم فينا، فالآن نسيء إليك أكثر منهما، فجاهد لوط القوم جداً فدنوا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما فأدخلا لوطاً إليهما إلى منزله، ثم إن القوم الذين كانوا بالباب ضربوا بالعشى من كبيرهم حتى صغيرهم فأعيوا في طلب الباب، فقال الملكان للوط‏:‏ ماتصنع هاهنا‏؟‏ اعمد إلى أختانك وبينك وبناتك وجميع ما لك في هذه القرية فأخرجهم من هذه البلدة لأنا نريد الخسف بالبلدة لأن فعالهم وخبث صنيعهم قد بلغ الرب، فأرسلنا الرب لنفسدها، فخرج لوط وكلم أختانه وأزواج بناته وقال لهم‏:‏ قوموا فاخرجوا من هذه القرية فإن الرب مزمع لخرابها، وكان عند أختانه كالمستهزئ بهم، فلما كان عند طلوع الصبح ألح الملكان على لوط وقالا له‏:‏ قم فأخرج امرأتك وابنتيك اللتين معك لكيلا تبتلي بخطايا أهل هذه القرية، فابطأ لوط فأخذ الملكان بيده وبيد امرأته وابنتيه لأن الله رحمه فأخرجاه وصيراه خارجاً عن القرية، فلما أخرجاهم خارجاً قالا له‏:‏ انج بنفسك ولا تلتفتن إلى خلفك ولا تقف في شيء من جميع القاع، والتجئ إلى جبل وخلص نفسك، فقال لهما لوط‏:‏ أطلب إليكما يا سيدي أن أظفر الآن لأن عبدكما برحمة ورأفة وكثرت نعماكما إليّ لتحيي نفسي، لست أقدر أن أنجو إلى الجبل، لعل الشر يرهقني فأموت، وهذه القرية هي قريبة للهرب إليها وهي صغيرة، أتأذنان لي بالهرب إليها لأنها حقيرة، فلتحييا نفسي، فقال له‏:‏ قد شفعتك في هذا أيضاً فلا أقلب هذه القرية التي سألت، أسرع فانج نفسك إلى هناك، لأنا لسنا نقدر أن نعمل شيئاً حتى تدخلها، ولذلك سميت تلك القرية صاغار- وفي نسخة‏:‏ زغر- فشرقت الشمس على الأرض وقد دخل لوط صاغار، وفي نسخة‏:‏ زغر- فأهبط الرب على سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرب من السماء فقلب هذه القرى والقاع بأسره، وأهلك جميع سكانها وجميع من فيها وجمع نبت الأرض، فالتفتت امرأته إلى خلفها لتنظر فصارت نصبة ملح، فأدلج إبراهيم باكراً إلى الموضع الذي كان يقف فيه بين يدي الرب؛ فمد بصره نحو سدوم وعامورا وإلى جميع أرض القاع فنظر فإذا دخان القرية يرتفع كدخان الأخدود، فلما خسف الله قرى القاع ذكر الله إبراهيم فأرسل لوطاً من المأفوكة إذ قلب الله القرى التي كان ينزلها لوط فطلع لوط من صاغار- وفي نسخة‏:‏ زغر- فسكن الجبل هو وابنتاه معه لأنه تخوف أن يسكن صاغار، فجلس في مغارة‏.‏